سألت مرة _منذ سنوات طويلة_ رساما مشهورا:
_ كيف تعرف ما الذي تريد رسمه.. كيف تعرف أين تضع الخطوط.. وكيف تعرف ماهي الألوان التي تريد تضمينها في لوحتك؟
وعلى الرغم من صعوبة السؤال واتساع معناه بما لا يتناسب مع ضيق وقت الرسام في معرضه آنذاك.. إلا أنه قد حاول أن يقدم لي إجابة عن تساؤلاتي فقال:
_ عندما تعرف ما الذي يلهمك.. وتعي موضوعك.. وتدرك كيفية التعامل مع المساحة والفراغ.. وتفهم مكنون اللون ودرجاته وإيحاءاته.. وتتقن استخدام أدواتك.. وتتواصل مع نفسك بشكل حر كي تعبر عنها بشكل حر.. سيتبخر سؤالك وستصبح الأمور أكثر سهولة بالنسبة إليك..
..
ولكي أكون صادقا.. لم أستطع إدراك المعنى الواضح لإجابته في ذلك الوقت.. ولم أتمكن من فهم ما يتحدث عنه إلا بعد سنوات من ذلك الحوار.. عندما دخلت أكثر في عالم الصورة الفوتوغرافية.. وفهمت أهمية الكادر المحيط بصورتي وما يمكن أن تعنيه تلك العناصر المحبوسة في داخله.. واكتشفت أخيرا أن سؤالي كان بطريقة أو بأخرى هو سؤال مباشرحول: التكوين.. الذي له الصدارة بالنسبة لأي كادر يحتوي عملا فنيا.. سواء أكان فنا حرا.. أو فنا تطبيقيا (تصميم)..
_ ولكن ما هو التكوين؟ ولماذا تعتبر تلك الكلمة غموضا منفرا في بعض الأحيان بالنسبة للمصمم المبتدئ؟
كي نجيب على هذا السؤال لابد لنا من فهم معنى التكوين وتعريفه تعريفا مبسطا وسهلا.. ولعل أبسط ما يمكن أن نقوله هنا:
التكوين: هو قرار الفنان..
قراره حول ما سيضعه ضمن إطار الصورة وما سيتركه خارجها..
قراره حول ما سيعطيه المساحة.. وما سيضيق عليه المساحة..
قراره حول ما سيعطيه الأهمية والحضور والثقل البصري.. وما سيجعله مكملا ثانويا بعيدا عن دور البطولة..
قراره حول الإخراج والخيارات اللونية الذي سيخرج بها عمله..
وقراره حول اختيار الاتجاه الفني الأكثر تعبيرا وتناغما مع عمله..
..
التكوين إذن هو قرار شامل يحتوي كل تلك الخيارات التابعة في الأصل لهدف الفنان من العمل الفني.
وبناء على ذلك فكل ما يدخل ضمن الكادر يمكننا أن نطلق عليه: التكوين.
وهو عمليا العنصر الأهم في العمل الفني لأنه ببساطة هو التعبير البصري الكامل.. وهو بساط الريح الذي سيحمل رسالة الفنان للمشاهد.. فإما أن يكون التكوين صحيحا وتصل الرسالة بشكل صحيح.. أو أن يكون التكوين مضطربا فتضيع الرسالة ويسقط العمل البصري في وادي الفشل..
ولكي نزيل الغموض الذي يحيط عادة بكلمة التكوين لابد لنا من معرفة عناصره وقواعده تفصيلا.. والإلمام بها وبتفاصيلها بشكل كامل.. والتدرب عليها ضمن ورشات عمل مكثفة تؤهلنا لإدراك المحتوى الفني (شكلا ومضمونا) داخل الكادر الذي نعمل ضمن حدوده..
وهي مسألة أساسية لا بديل عنها بالنسبة لأي شخص يود الدخول إلى عالم التعبير البصري.. سواء أكان فنانا حرا (كالرسام) أم فنانا تطبيقيا (كالمصمم أو المخرج الفني وما شابه).
فالتكوين بالنسبة للفنان الحر هو عملية فهم عميقة تساهم بفتح البصيرة الفنية وبناء الألوان والأشكال وتناغمها وتراكبها.. وتأسيس منظومة بصرية متناغمة فيها وحدة وانسجام ومتصلة اتصال واضح مع مكنون الفنان وشعوره وهدفه من لوحته..
والتكوين بالنسبة للفنان التطبيقي لا يمكن أن يكون شيئا اعتباطيا قائما على التخمين والحس الفني فقط.. بل هو عملية منظمة قائمة على الفهم العميق لقواعد ونصائح وطرق تنفيذ.. قد ينجم عنها إما التزام بالقواعد.. أو كسر واعٍ ومدرك لتلك القواعد.
أما إنتاج التكوينات البصرية العشوائية دون وعي أو دراية بقواعد التكوين.. فهو أمر فوضوي سيسبب إما فوضى بصرية بتكوينات تفتقر إلى الجمال والعمق الفني والثقل الحقيقي لإنتاج الفن الواعي.
أو فوضى تسويقية تنتج من تصميمات لا تحقق مطلقا النتائج المرجوة التي وجدت لأجلها.. وما ذلك إلا لأن القائم على عملية التصميم هو شخص لا يعرف ولا يعي سبب اختياراته.. ولئن سألته عن السبب وراء وجود أي عنصر أو اختيار لوني أو شكلي أو مساحة مفروضة داخل تصميمه فسيصمت في أفضل الأحوال.. أو ربما سيغضب وسيبارز على الفور بسلاح الحس الفني التخميني.. وهو ما نراه يحدث يوميا بين المصمم والمسوق أو بين المصمم والعميل مباشرة..
إن فهمنا لقواعد التكوين سيجعل من عملية الابتكار التي تحدث خلال العمل الفني عملية أكثر سهولة وسلاسة.. وسيصبح العصف الذهني الذي يسبق التنفيذ أكثر إبداعا وتبصرا.. خاصة في ظل الوعي البصري أو (الصحوة البصرية) التي يحدثها إدراكنا لملهمات التكوين والإمكانيات الشكلية المتنوعة التي ستكون مخزونة لدينا مسبقا من خلال تدربنا المتواصل على الرؤية والمشاهدة واكتشاف الأشكال والألوان وترتيبها الفني وفقا لشعورنا أو رسالتنا سواء من اللوحة أو من التصميم.
عندما أعود الآن لسؤالي القديم الذي سألته يوما للرسام.. سأجد أن إجابته بسيطة وسهلة جدا ومحددة بكلمة واحدة تخفي وراءها عالما كاملا من الخيارات والإمكانيات..
التكوين.
…
بقلم: محمد الحموي