منزل فيه غرفتان متجاورتان..

الأولى فيها رسام.. والثانية فيها مصمم..

الأول يعمل على إنجاز لوحة.. والثاني يعمل على إنجاز تصميم..

ما هو السؤال الحرج الذي إن سألته للأول قد يغضب ويثور.. وإن سألته للثاني يجب أن يجيبك عنه ببساطة وثقة؟

قبل أن نعرض لهذا السؤال الدقيق.. لابد لنا من وقفة بسيطة نستطيع فيها التفريق ما بين مفهومين مهمين.. يمثلان الرسام والمصمم هنا وهما: الفن والفن التطبيقي.

فالفن هو عملية تعبيرية حرة عن مكنونات النفس باستخدام إحدى الوسائل الإبداعية المتاحة.

أما الفن التطبيقي:
فهو عملية تعبيرية مقيدة عن موضوع ما يتم بالاتفاق وبالاستخدام المتقن لإحدى الوسائل الإبداعية المتاحة.

وإن عدنا إلى مثالنا الأول فسنجد أن أهم ما يتسم به الرسم (كفن حر) هو مساحته الواسعة بالتعبير.. فالرسام _كشخص يستخدم الصنعة الفنية_  يمتلك الحرية التامة بالتعبير عن نفسه والخيار الكامل باختيار أشكاله وألوانه ومواضيعه التي يضمنها في لوحاته..

_ من الممكن أن يجمع المتناقضات اللونية والازدحام الشكلي.. ثم فجأة يسعى وراء الهدوء اللوني والمساحات الفارغة..
_ من الممكن أن يعمل بالتجريد والمضمون الشكلي.. ثم يهتم فجأة بالسريالية والتعبير اللاشعوري..
_ من الممكن أن يعبر عن مشاعر جلية واضحة تارة ثم عن مكنونات غامضة تارة أخرى… وهكذا..

ولا تتحصل تلك المساحة الواسعة للفنان الحر إلا لأنه يقوم بالتعبير عن نفسه فقط.. وهذه العملية يجب أن تتم دون قيد أو شرط (إلا طبعا بعض الشروط والقواعد الخاصة بإتقانه لأدواته التي يعمل بها).

وعلى العكس تماما فإننا نجد المصمم (الفنان التطبيقي) يعمل على إنتاج فنه (الموجه) ضمن قيود كثيرة قد تفرض عليه كل شيء.. ابتداء من اللون والشكل والماهية والمدرسة الفنية وانتهاء بنوع الخط والأدوات المستخدمة.. ناهيك طبعا عن موضوع العمل الذي هو أصلا ليس موضوعه الشخصي.. وهنا يكمن الفرق الأساسي.
فمحتوى التصميم في الأصل هو ليس محتوى شخصيا للمصمم.. ولذلك فهو لا يعبر عن مكنونه الخاص بل عن يعبر مكنونات أخرى لجهة خارجية ذات أهداف تسويقية أو ترويجية غالبا.

إن التصميم هو مساحة ضيقة للتعبير عن مفاهيم متنوعة تتراوح ما بين المنتجات المادية والأفكار الواسعة والحملات الدعائية.. وهو مساحة ضيقة لأن المتحكم بها هو العديد من العوامل التي تحتم أن يكون عمل المصمم متوازنا ما بين الفكر والفن وحسن الاختيار وإتقان أداة التعبير أو التصميم.

_ من هذه العوامل مثلا: العميل وكيفية استخدامه للتصميم.. (بيع.. إعلان.. إعلام.. لفت نظر.. الخ).

_ المنتَج الذي سيكون موضوع التصميم (سواء أكان منتجا ماديا أو معنويا) وما يمكن أن يفرضه من شكل ولون..

_ السوق الذي سيستقبل المنتج.. وشريحة الجمهور المستهدف وطبيعته وميوله..

_ طبيعة الحملة الإعلانية والأدوات المستخدمة فيها (فوتوشوب تصوير رسم تحريك اليستريتر.. الخ) ونوع التصميم (بروشور.. بوستر.. طباعة.. أون لاين.. سوشال ميديا.. الخ).

لعل الفرق في نهاية المطاف ما بين التصميم كفن تطبيقي والرسم كفن حر هو خط دقيق يتمحور حول إمكانية أو أحقية طرح سؤال واحد فقط.. هو ذات السؤال الحرج الذي بدأنا فيه المقال.. في المنزل ذي الغرفتين..

هذا السؤال الذي يعتبر كفرا لدى الرسام ويعتبر تكرارا يوميا منطقيا لدى المصمم.. والسؤال هو:

_ برر لي لم رسمت هذا؟ لم لونت هذا؟ ولم اخترت هذا الشكل؟

لو سألت الكثير من الرسامين هذا السؤال لكانت معظم إجاباتهم سلبية.. لأنهم قد يعتبرونك تتدخل وتطالبهم بتبرير أكثر الأشياء التي اختاروها في حياتهم حرية بلا قيود.. وهي التعبير الحر..

بينما لو سألت المصمم (الواعي) هذا السؤال لوجدت لديه إجابات منطقية تفيد سبب اختياره لكل شيء في تصميمه عن وعي بموضوعه قبل أن يبدأ (لعميل)، ووعي بموضوعه خلال تنفيذه (التكوين)، ووعي بموضوعه بعد أن ينتهي (السوق).

توقع إذن إن كنت تعمل في مجال التصميم هذا السؤال المكرر.. ولا تجعله يستفزك كما يفعل مع من يزاول الفن الحر فالوضع مختلف.. والسؤال حق ولا ينتقص من فنك ولا قدرتك الفنية.. بل هو طلب طبيعي للتبرير المنطقي لما تفعله في فنك الموجه المعد من أجل أهداف خارج نطاق التعبير الشخصي..

فإن كنت تعلم فعلا السبب الكامن وراء اختياراتك التصميمية والتكوينية.. فلا ضير من الإجابة والتوضيح الواثق وتبادل وجهات النظر مع صاحب التصميم الحقيقي (العميل).. وإن كنت لا تعلم السبب.. فأمامك ثلاثة حلول:

_ إما أن تصبح رساما وتنطلق في عالم التعبير الحر..

_ أو أن تجهز نفسك لنزاع يومي مع العملاء..

_ أو أن تحاول تعلم أصول التكوين والتسويق والخفايا الكامنة وراء التصميم من أجل أن تكون جاهزا للدفاع عن تصميمك بمنطق صحيح يجعل عميلك عبر الأيام أكثر ثقة واطمئنانا لفكرك وإنتاجك.. وهي عملية تحتاج صبرا ومرونة وجهدا مثابرا في التعلم وأصول مواكبة العميل دون إفراط أو تفريط.

بقلم: محمد الحموي